وقف الأعمى في رصيف الشارع متشبثاً بعصاه التي وقفت حائرة مترددة تنتظر اللحظة المناسبة لتعبر به الشارع إلى الرصيف الآخر.كان الأعمى الذي دخل المدينة لأول مرة يحب عصاه حباً أعمى. كانت عينه التي يرى بها الدنيا.: رفيقة دربه التي تمتص خوفه من الوحدة والظلام. وشريكة حياته التي تقاسمه الفراش.. وتنصت إلى حديثه في النهار وبكائه في الليل.....
في القرية وهي تقوده في الدروب والشعاب... كان كل شيء يسير على ما يرام...كانت تمضي به إلى أي مكان يشاء بدون متاعب تذكر. تقول له:
((انحرف إلى اليمين أمامك حمار)) فينحرف إلى اليمين. تقول)):انحرف قليلاً إلى اليسار أمامك حفرة)). فينحرف قليلاً إلى اليسار وهكذا فلم يحدث طوال وجوده في القرية أن وقع مرة في حفرة أو اصطدم بدابة أوبهيمة, أما هنا في المدينة فإن الأمر يختلف تماماً... صحيح أن الطرق هنا مستقيمة خالية من الحفر والشوك والحجارة... فضلاً عن أنها تمتاز عن دروب القرية باتساعها الشديد. لكن عصا الأعمى الفت نفسها-رغم ذلك كله- خائفة تكاد تختنق من ضيق فتحة الأمان وضآلة احساسها بالحرية. كانت تتحرك ببطء وحذر شديدين وكأنها تسير على حبل مشدود بين هاويتين. كانت تمشي وترتجف خوفاً على نفسها وعلى حبيبها الأعمى الذي كاد-لولا تشبثه بها- أن يسقط أكثر من مرة تحت أقدام المارة. قال الأعمى الذي تشبث بعصاه وقد كاد يجرفه سيل البشر المنحدر من أعلى الرصيف هل الناس هنا عميان..؟
قالت العصا وهي تسحبه بعيداً عن سيل المارة المندفع ))إنهم أكثر من عميان)). قال الأعمى وهو يميل عليها بحنان: ألا يوجد هنا من يقودهم؟
أجابت العصا وهي تغوص في الزحام:...
بل توجد عصا غليظة تسوقهم... يسمونها: ((الصميل)) نصف ساعة مضت وعصا الأعمى واقفة في مكانها على رصيف الشارع الكبير سألها الأعمى وقد نفذ صبره... لماذا لانعبر؟ أجابت العصا وهي ترتجف بين أصابعه: ((الطريق مليء بدواب المدينة)).
وماذا في ذلك؟ هل صرت تخافين من الدواب؟
عذرك معك, فأنت أعمى ولو رأيت ما أراه لما تعجلت العبور بل ربما غيرت رأيك وأقفلت راجعاً إلى ((ديمتك)) في القرية...
لماذا؟ أليست الدواب هنا كدواب القرية؟
كلا, إنها هنا مختلفة تماماً-فهي متوحشة كما يبدو كما أنها لا تبصر رغم أن لها عيوناً واسعة من الزجاج.
-هل تسير لوحدها في الطريق؟
بل هناك أناس يقودونها أو ربما هي تقودهم من يدري؟
إلى متى سنبقي هنا نتظر..؟
إلى أن يفرغ الطريق من هذه الدواب اللعينة. إنني أخاف عليك من جنونها.
-أنا كذلك أخاف عليك يا حبيبتي
هل حقاً تحبني أيها الأعمى؟
-إنني أعبدك
هل ستبكي علي لو انكسرت؟
-سأبكي دماً وربما أموت من الحزن.
احلف إنك لن تخونني مع عصا أخرى
-أقسم لك بذلك.
هل ستتذكرني؟
-سأتذكرك دائماً.
ألن تنساني؟
-لن أنساك أبداً.
كان الشارع مكتظاً بسيارات من كل نوع. سيارات من اليابان وألمانيا... سيارات من فرنسا وأميركا من روسيا وبريطانيا ومن كوريا ((دموريا)) وبلدان أخرى نجهل أسماءها ومواقعها وكان ما يوحد بين هذا الخليط العجيب من السيارات المختلفة الأشكال والمتعددة الجنسيات هو أنها جميعها تسير بسرعة جنونية.. وتقاد بواسطة أناس يتمتعون بعبقرية الدواب وذكاء البهائم.
قالت العصا لحبيبها الأعمى وهي تتنفس الصعداء:
الحمد لله لقد توقف سيل الدواب- هيا نعبر الآن واندفع الأعمى وراء عصاه التي راحت تقطع الشارع على ايقاع أغنية الموت.
كانت العصا التي طارت عالياً في الهواء قد سقطت جثة بجوار جثة الأعمى. كانت الجثتان اللتان عبرتا الشارع إلى رصيف الموت تطفوان فوق بركة حمراء من الدم وتحملقان في سماء المدينة العمياء.
الخميس مارس 05, 2020 8:13 pm من طرف shassan
» إلى متى ؟ للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 8:39 am من طرف ماهر امين
» روعة عدم اللقاء للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 8:35 am من طرف ماهر امين
» سؤال مُحيّري للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 8:26 am من طرف ماهر امين
» مقابر الذكريات للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 8:18 am من طرف ماهر امين
» شهادات وفاة ، وسرادقات عزاء للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 8:10 am من طرف ماهر امين
» الموندِيـال العائلي .. للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 7:56 am من طرف ماهر امين
» صناعة مجرم للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 7:43 am من طرف ماهر امين
» هل كلنا صائمون؟! للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 7:37 am من طرف ماهر امين
» كيف تصنع أعداءك ليُصبح لهم دورٌ حيويٌ في حياتك؟ للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 7:32 am من طرف ماهر امين
» الضوء الشارد لكن بإدراك مختلف للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 7:23 am من طرف ماهر امين
» لقد آن أوان الفطام للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 7:12 am من طرف ماهر امين
» أنت والمحيط للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 7:07 am من طرف ماهر امين
» الفم ..دار البلسم للدكتورة مها شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 7:03 am من طرف ماهر امين
» فلسفة الخُطة وفن التواصل للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 6:53 am من طرف ماهر امين
» من أقوال المفكر والمحاضر العالمي د. إبراهيم الفقي للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 6:49 am من طرف ماهر امين
» إدراكات ولكن ليست كالإدراكات ! للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 6:43 am من طرف ماهر امين
» في صحبة عالم ( جولة حول الدولة ) للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 6:11 am من طرف ماهر امين
» إدراك شخصي عن نموذج للتميز والامتياز البشري للدكتورة مها محمد شحاته
الإثنين أغسطس 04, 2014 6:02 am من طرف ماهر امين
» أهكذا قسم الترجمة
السبت سبتمبر 21, 2013 11:04 am من طرف سلمى الغرياني